مونديال بلا سياسة ..!

* يحرص السياسيون على تخريب الأوطان، وتفكيك حلقات المجتمعات لدوافع هي خليط من شهوة الانتقام، ومزيج من مصالح حزبية ضيقة، يصدرون الفواجع إلى بيوتنا يوميا ثم يدعون أنهم حماة الأوطان، الملعب السياسي بلا ضوابط، وبلا روادع، ومن الطبيعي أن يسجل السياسيون أهدافا غير شرعية، مع أننا لو طبقنا قوانين الملعب الكروي الرياضي على الملعب السياسي لخرج السياسيون من الملعب مطرودين وقفاهم يقمر عيشا..

ومع شهر (المونديال) سينصرف العالم عن مضغ المفردات السياسية ذات النزعة القاتلة، وسيخفت الاهتمام بالسياسة وتداعياتها، وستبور تجارة السياسيين لشهر كامل، حيث سيقل عدد المهمومين بالهندسة السياسية بشعاراتها العدوانية الانتهازية، وستتوقف آلات الحروب في العالم عن الدوران في فلك العالم الثالث، فعندما تطل بطولة كأس العالم مرة كل أربع سنوات تسكت دانات المدافع وأزيز الطائرات عن الدوي غير المباح، تنحني الحروب الباردة والساخنة أمام البطولة العالمية التي تشد إليها الرحال، وتتهافت الصحف الطائرة والسيارة على صور نجوم كرة القدم، وهم يرسلون إلى بيوتنا هدايا العيد في صورة شلالات من الإثارة التي لا تطاق..

شهر كامل من المتعة الكروية لن يتحرك فيها السياسيون قيد أنملة للترويج لشعاراتهم الدموية وبرامجهم القهرية، سيخفت الاهتمام بالموال السياسي الذي يجمع بين الكذب والافتراء، ستنشغل الفضائيات العربية والعالمية بالحكايات الطازجة القادمة من (روسيا)، لن يجد السياسيون موطئ قدم في الفضائيات لممارسة الدجل والأفك والبهتان، ولن يجدوا ممولا لحروب طاحنة وقودها الناس والحجارة ..

ليت السياسيين على مختلف مشاربهم وألوانهم يكفون عن الأذية في شهر المونديال، وهم الذين لم يقيموا وزنا للأشهر الحرم، ويحذون حذو الرئيس الفرنسي الشاب (ماكرون)، الذي سيباشر عمله طوال أيام (المونديال) ببدلة المنتخب الفرنسي عوضا عن البدلة الرسمية التي تعود عليها، وهو موقف حضاري دفع غريمه البريطاني (ديفيد كاميرون) إلى تقليده رغم العداء السياسي الذي لم يمنع وصول (الدجاج) الفرنسي إلى الأسواق البريطانية بانتظام وبدقة الساعات السويسرية..

في وسع السياسيين العرب مساندة المنتخبات العربية المشاركة في المونديال (مصر والمغرب والسعودية وتونس) طالما ثقافة (أبجد هوز) تجمعنا، وقواسم أخوية أخرى تحتاج إلى كرنفال فرح لتخرج من مرحلة الموت السريري، أعتقد أن الولاء يمكن تقسيمه على الأربعة دون أن يكون في ذلك خيانة للعيش والملح، وأسألوا الفنان (محمد عبدالوهاب) الذي غني (وطني حبيبي الوطن الأكبر)، و إن كان هذا النشيد بالأبيض والأسود، ولم يعد يواكب القومية العربية النائمة في كهف الخلافات، فلا مانع من تجديد النشيد القومي العربي ولو بالإصغاء للفنان الشعبي (شعبان عبدالرحيم) الذي كان أول من تجرأ قائلا: أنا بكره إسرائيل، ثم تفنن في حب (عمرو موسى)، وكأنه يبحث بين رفات الفن الشعبي عن مجد عربي ساد ثم باد..

في شهر (المونديال) سيفسح مجلس الأمن الطريق لكرة القدم لتصلح علاقات أفسدها (عطار) السياسة، فتسجيل هدف كفيل بتوحيد القلوب وتطبيبها من أدران الغل والكراهية والعنصرية المقيتة، ومراوغة لاعب ستستدعي انطلاق آهات الإعجاب من حلوق الأصدقاء والأعداء والفرقاء في نفس واحد، وربما سيدفع الهدف هؤلاء المتخاصمين إلى تبادل الأحضان ونسيان ذلك الطيش السياسي الذي جعل بين الأوطان ما صنع الحداد ..

وخير فعل الرئيس الأمريكي (ترامب) عندما أجل خطاباته السياسية الملتهبة إلى ما بعد (المونديال)، هذا لأنه يعلم مثلما يعلم بقية رؤساء الدول العظمى أن الذي سيحكم العالم خلال شهر المونديال هم: ميسي ورونالدو وغريزمان وأوزيل ونيمار ومحمد صلاح، فهم من سيستئثرون بالأضواء، وهم من سيحيلون الملفات السياسية المتنازع عليها إلى أرشيف التجميد، وفي شهر (المونديال) سينكمش صناع الحروب ويتقنفذون على أنفسهم وأسلحتهم الشاملة، وحتى لو استعانوا بالأسطوانة النووية المشروخة فلن يصغي لهم سكان البسيطة، حيث سيبدون يغردون خارج السرب، ومعزولين في حظيرة سياسية قذرة منبوذة طوال شهر كامل سيقدم فيه (مونديال) روسيا أطباقا شهية من متعة كروية فوق العادة..

سيعيش العالم بمختلف قاراته (هدنة) كروية يستوجب أن يتخلى فيها فرقاء السياسة عن السلاح، وعن فكرة اللعب بالنار، فماء (المونديال) سيطفئ نيران السياسة، سيضع المتحاربون حول العالم أسلحتهم ويتجمعون حول شاشات الفضاء الرقمي بحثا عن كارت يفك شفرة القنوات المالكة للبطولة الكبيرة، في هذا الشهر لا غرابة عندما يتجمع الجنود ويلتفون حول الشاشة ويتركون أسلحتهم وراء ظهورهم، وفي لحظة ينطلق تصفيق حار من جبهات القتال إعجابا بمراوغة أو بلمسة أو بتمريرة حريرية ساحرة..

في أيام المونديال على مدرس الجغرافيا أن يصدق تلاميذه عندما يؤكدون له في الامتحان أن الذي أثبت أن الأرض كروية هم لاعبو كرة القدم، في مقدمتهم ميسي ورونالدو وصلاح وبوغبا ونيمار، وليس جاليو جاليللي الذي تراجع عن فكرته الفلكية تحت جبروت الكنيسة قبل أن يهمس لنفسه وهو خارج من المحكمة قائلا: ومع ذلك فإنها تدور، على فرسان التاريخ أن يصدقوا في شهر (المونديال) أن الذي يتحكم في بوصلة الكرة الأرضية ويوجهون سياساتها هم لاعبو كأس العالم، فهم من يقررون مصير كوكب الأرض وليس رؤساء الدول العظمى..

عندما يدخل (المونديال) بيوتنا نشعر بمساواة حقيقية بين الأغنياء والفقراء، لا تمييز عنصري ولا فارق طبقي يمنع هتافا موحدا لهدف ذكي ملعوب يدفع الفرقاء للعناق بمشاعر صادقة فياضة ليست مصطنعة، ومع (المونديال) يتذكر الجار جاره السابع، يسهرون معا، يهتفون ويشجعون دون الخروج عن المألوف، وطوال شهر كامل تكتض الساحات العامة بالمشجعين والمهووسين بكرة القدم، ويستعيد الجميع صداقات قديمة جددها (المونديال) بعد أن توارت تحت ضغط تغير البشر وليس الزمن..

إن الانقلاب الذي يحدثه (المونديال) خلال شهر يكشف عن أكذوبة مجلس الأمن والأمم المتحدة، ماذا لو تم إلغاء تلك المنظمتين الفاشلتين وتم استبدالهما بهيئة أممية في كرة القدم ..؟

في تصوري لو حدث هذا ستنتهي الحروب، وتفنى أسلحة الدمار الشامل، وتختفي طائرات الموت المسيرة في السماء، وتتبخر ترسانات الطاقة النووية، فعندما يشتعل نزاع سياسي بين دولتين يكفي أن تنضم الهيئة مباراة في كرة القدم بين الدولتين، وتنتهي المشكلة بتبادل الفانلات بين اللاعبين، ويمكن حل الخلافات السياسية العالقة بزيارة من ميسي أو رونالدو أو نيمار دون الحاجة لاجتماعات وجع القلب والدماغ، ولو أن (نوبل) فكر قليلا وكفر عن اختراعه القاتل قبل أن يوارى جسده التراب لمنح جائزته السنوية للاعبي كرة القدم تحديدا، فهم حمائم السلام، وليس علماء ذرة يتفننون في اختراع علب الموت الزؤام..

تخيلوا هيئة سياسية تصلح ذات البين تضم في عضويتها بيليه ومارادونا وزيدان وبيكنباور وبلاتيني وأنييستا، ثم ماذا لو أن ليونيل ميسي أو كرستيانو رونالدو ترشح أمام ترامب أو ميركل أو ديفيد كاميرون لرئاسة العالم، ترى هل يصمد أحدهم أمام شعبية ميسي أو رونالدو..؟

وماذا لو أن لاعبي كأس العالم اأضربوا عن اللعب موندياليا بهدف دعوة سكان الأرض للقيام بثورة شاملة ضد السياسة، ومنح لاعبي الكرة فرصة قيادة بلدانهم كما كان الحال مع الليبيري (جورج وياه)، لو حدث ذلك سيعيش العالم في وئام وسلام، وستكون عقوبة من يخل بميثاق الشرف منعه من مشاهدة بطولة في كأس العالم، وسيكون قرارا أشبه بعشر سنوات شاقة..

و يا أيها السياسيون، يا من تتاجرون بدماء الأبرياء وترسلون لنا أسلحتكم الذكية والغبية لتحصد الملايين من الضحايا، دعونا نعيش شهر المونديال في سلام بعيدا عن فوضاكم غير الخلاقة وألعابكم الدراكولية القاتلة..!