زايد بن حمدان.. ومبادئ الإمارات

في مشهد توقيع «اتفاق الرياض» بين «المجلس الانتقالي الجنوبي» والحكومة اليمنية كان لافتاً حضور حفيد مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة بين الشاهدين لمنعطف من منعطفات التاريخ السياسي اليمني، الشيخ زايد بن حمدان بن زايد العائد من حرب اليمن بإصابة، لم يلخص بحضوره الدور الإماراتي في حرب اليمن فحسب، بل إنه قدم محاضرة بليغة في قيم ومبادئ غرسها جده المؤسس في دولة الإمارات العربية المتحدة، تؤكد الأبعاد العميقة التي قامت عليها أركان الإمارات ككيان وطني.
وبتدشين دولة الاتحاد قامت أساسات راسخة للإمارات العربية المتحدة، تتمثل أولاً في قيمة الإنسان وتأهيله بالمعرفة والقوة والشخصية، مؤهلات المواطنة في دولة ناشئة على إرادة الحضور المؤثر في محيطه جاءت أيضاً من رؤية الانتماء لذلك المحيط العربي، واعتبار أن الأمن القومي جزء لا يتجزأ من الأمن الوطني، وهذا يعود بالذاكرة للسنوات الأولى من نشأة دولة الإمارات العربية المتحدة والموقف من حرب أكتوبر 1973 في معركة عربية وضعت فيها الإمارات قرارها بجانب قرار الجيش المصري في تأسيس لنهج وأسلوب تلتزم به.
انتهاج الإمارات ككيان على ترسيخ هذا المفهوم ضمن عدة مفاهيم والتزامات أعتقد بها الأب المؤسس، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كان التحدي الأول في السنوات الصعبة الأولى، نجح الاختبار القومي، فانتج مواقف سياسية وعسكرية توالت على دولة كانت تمضي بمخططاتها في بناء قدرات الإنسان وتعزيز القيم الأساسية وبذلك كانت الإمارات تنهض في الذهنية العربية نهوضاً لافتاً ليس فقط في جانب الاقتصاد، بل في تنمية قدرات المواطنين الذين كان أشقاؤهم العرب يراقبون ظهورهم اللافت في مناحٍ مختلفة ومزاحمتهم للمناصب الدولية بقيمة ما يمتلكونه من أرصدة معرفية.
إذن ما قدمته الإمارات في حرب اليمن لم يكن سوى امتداد لبدايات التأسيس وانتهاج لطريق نشأ بالتزام في مسارات وإنْ كانت محدداتها صعبة، فإنها ليست مستحيلة في دولة نشأت أصلاً، وهي لا تؤمن بوجود المستحيل، فعملياً كان قرار المشاركة مع السعودية في تحالف دعم الشرعية اليمنية قراراً يعبر عن الالتزام بالمبادئ الأصيلة، وكان في واقعه محطةً أخرى من أهم المحطات لاختبار قدرات البنية التحتية الإماراتية في كافة مناحيها السياسية والعسكرية والإعلامية.
ما بين تحرير عدن والتفاصيل الصغيرة من الحرب، ثمة مواضع الاختبارات الدقيقة لتلك البنية التحتية التي بذلت فيها الدولة الأموال للاستثمار فيها، الجانب العسكري يأتي دائماً لإسناد القرار السياسي، وفي الإمارات معركة أولى لم تتزحزح أبداً هي معركة قتل الظلام وفتح النوافذ لمرور الأضواء، معركة الإرهاب لا تخاض في الأدمغة الملوثة بل على الأرض كذلك وهذا جانب آخر خاضت فيه القوات المسلحة الإماراتية معركة شرسة وهي تخوض تحرير الساحل الحضرمي وتقتلع الظلاميين من المكلا وما حولها.
في شبوة وأبين ولحج وعدن معارك ليست مكررة، ففي كل معركة اختبار لتأهيل الكادر العسكري وتجهيزاته وعتاده، والأهم من ذلك كله عقيدته العسكرية في مواجهة أعداء البشرية من الظلاميين، تلك المعارك وإنْ مازالت غير محكية بعد، فإنها كانت اختبارات عسيرة صنع فيها جنود الإمارات إلى جانب المقاومة الجنوبية والأحزمة الأمنية والنخب الحَضرمية والشبوانية، ما منح الإمارات شهادة دولية في مجال مكافحة الإرهاب، أكدت المؤكد بأن قدراتها في هذا المجال بألف خير.
عندما ظهر الشيخ زايد بن حمدان بن زايد بين الحاضرين في القاعة الملكية بين الشخصيات الرئيسة كان فارقاً في كل المشاهد، فالحفيد الذي قدمه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، كفارس من فرسان بلاده، كان صورةً مثالية للإمارات بمعرفتها وقوتها وشجاعتها ومبادئها، جملة من القيم الراسخة المصنوعة في سنوات مضت ظهرت عند منعطف من منعطفات اليمن السياسي لكنها ستواصل المنهجية الأولى، فالعقيدة الوطنية هي التي نجحت حين فشل الآخرون.
الحضارات الممتدة في سبعة آلاف عام مضت من اقتتال لم تصنع كرامة لبشر، بمقدار ما صنعت تدويراً للدمار والصراعات والتشرد، معايير منحرفة في مخاطبة العقل الناضج الذي عليه أن يعترف بحقيقة أن الأوطان تصنعها مبادئ وقيم يؤمن بها أصحابها تماماً كما كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يحوّلُ مبادئه إلى خططٍ وأفكارٍ تكون في أبنائه قبل أن تكون في غيرهم، هكذا تُصنع الأوطان من الحضارات السامية بالمعرفة، وليس بتراكم أطنان من غبار معارك خلفت القهر والجوع والجهل في الشعوب المطحونة ظلماً بسقوط المعايير.
تتسامى الإمارات في مواقفها حتى مع الطعنات الغادرة، فهذه سمة من سمات الأوطان الصحيحة الماضية نحو المستقبل، والراغبة في مزاحمة الآخرين على مواقع النجوم في فضاء يتسع لمن يمتلكون المعارف والعلوم وقبلها العقائد القوية بأنهم ينتمون لأوطان جوهرها مصنوع من اليقين بأن الانتصار في المعارك ممكن بعد تأهيل عقلي وبدني وتعايش وتسامح مع الذات قبل أن يكون مع الآخر مهما كان ذلك الآخر.
ليس من ثمة اختيارات سهلة أمام قيادة الإمارات سوى أن تمضي في معركتها التي بدأت بالقيم والمبادئ وتحويلها لوقائع تجبر الكل على الانحياز لما يصنعه القادة الكبار في حياة شعبهم من تأثير إيجابي، هذه معركة مصيرية لا مجالات معها للخسارة وكيف تخسر دولة وقد نشأت على اتحاد كان فيه زايد مؤسساً وحفيده بطلاً، معادلة لا تخسر في حسابات تظل وإن كانت صعبة لكنها في الإمارات ليست أبداً وأبداً وأبداً.. مستحيلة.