مثقفو الشمال وأوهام الأفضلية

مثقفو الشمال وأوهام الأفضلية

سناء مبارك

المزيد

في عنبر الأمراض النفسية عملت كطبيبة امتياز لمدة شهر، كنت أتسامر دائما مع الشاب مصطفى الذي تقمص دور مطرب مشهور، كان يغني طوال الوقت بأبشع طريقة ممكنة للغناء، لم أكن أجرؤ وسط حالة الاعتداد الرهيبة بالنفس أن أقول لمصطفى بأنه لا يصلح للغناء، إذ أنه لا يمتلك المقومات أولا ولا السجل الغنائي الناجح ثانيا! لكنه كان مقتنعا على كل حال، حتى أنه ناصب عمرو دياب أشد العداء والكراهية، وكان طوال الوقت يحكي لي خبايا هذا الصراع لأنه يعتقد أن عمرو مطرب سيء ولا يعي من الفن شيء ولأن مصطفى هو الأفضل فإن عمرو حاربه وسرق أغنياته وزج به في هذا السجن.. مصطفى كان مريضا ولا تملك إلا أن تقول له في كل مرة : لا بأس !

أتذكر مصطفى اليوم وأنا أقرأ تنظيرات مثقفي الشمال في الشأن الجنوبي.. تشعر لوهلة وكأنهم نخبة "سنغافورة"، تفرك عينك مرتين وأنت تقرأ لهم ينظرون حول الديمقراطية والتنمية والوعي الحداثي وما بعد الحداثي الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع في الجنوب، وكيف اننا منتزعون ومغيبون وواهمون وفاشيون، تشعر حقا وكأنك أمام نخبة نجحت طوال سنوات من تصدرها المشهد اليمني منفردة في صناعة الفرق، النخبة التي أرسلت الديمقراطية والتي حلت إشكالات النزاع وانتزعت الدولة "النموذج" وقدمت لبلدها أعلى درجات التنمية والتفوق العلمي والثقافي، ولا تكاد تصدق أنها نفسها النخبة التي خارج الأهلية والفاعلية، نخبة تنظر لدولة وهي لا تملك خاصتها، تنظر للحرية وهي مسلمة رأسها لجماعة كهنوتية، الرائي والقارئ لهؤلاء لن يصدق وهم ينظرون للجنوب أنهم نخبة بلد منهك اسمه اليمن، جزؤه الشمالي (الذي هم ينتمون إليه، وهو الأحق برؤاهم الفذة) واقع في أعتى درجات التخلف والعنف والهمجية والمركزية والرجعية والدولة "الفاشلة".

اتذكر صديقي مصطفى القابع في عنبر الأمراض النفسية تحاصره أوهام الأفضلية، وعمرو دياب الذي يعيش مجده لا يهمه من أمر مصطفى أي شيء.