الإعلام والجنوب العربي



بجهود دبلوماسية استثنائية، ينجح التحالف العربي بقيادة السعودية، في إحياء مشروع اتفاق الرياض بدعوة ممثلي المجلس الانتقالي الجنوبي، وعلى رأسهم عيدروس الزبيدي، للإقامة في الرياض، والبدء بمشاورات مباشرة وغير مباشرة، مع الحكومة الشرعية اليمنية لوضع خطة حية لتنفيذ الاتفاق، على أسس معقولة ومرضية للطرفين.

الجهود الكبيرة التي تبذلها السعودية، لتحقيق اتفاق الرياض، بإعلان حكومة كفاءات تكنوقراطية مناصفة بين الشمال والجنوب، لم تمنع القوات الإخوانية من استمرار التحشيد والتصعيد، والتي توصف حسب خبراء، بأنّها تحركات مشبوهة تتلقى الأوامر من تركيا وقطر، على أمل دفن اتفاق الرياض للأبد، خدمة للأجندة الإيرانية الغاضبة من هذا الاتفاق التاريخي، وخدمة لقطر وتركيا الذين وجدوا في الصلح بين الشمال والجنوب ضربة قاسمة لمحاولاتهم العديدة في إيجاد شرخ لا يلتئم بين شطري اليمن.

بالمقابل، لم يصمت الجنوبيون، لكنهم تحركوا في اتجاهات أكثر تعقلاً، سارعوا إلى تأميم الجنوب بإعلان الإدارة الذاتية، ثم إيجاد السبل لتقديم الخدمات للمواطنين، في رقعة واسعة تفتقر الخدمات الأساسية، والتي تم إهمالها لسنوات طويلة، خاصة توفير الكهرباء لبعض مناطق الجنوب، وبدء التفاوض بشأن البنك المركزي وتزويد الإيرادات، التي وصفت بأنها كانت تذهب سدى، لجيوب الفاسدين.

يقف الإعلام العربي عموماً، في تلك المنظومة المعقدة، شبه تائه من ناحية، وملتزماً الصمت من ناحية أخرى، باستثناء قناة الجزيرة، التي يغضبها التقدم الجنوبي الناعم نحو طريق حل الدولتين، الشمالية والجنوبية، على حدود مايو 1990، فتحاول القناة الموبوءة بالفكر الإخواني الإرهابي، التهجم على كل من يدعم قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي، ومهاجمته بوصفه “مدعوم إماراتياً”، وهي تهمة زائفة، لا محل لها من الإعراب، لكنها فزّاعة قوية، تجعل كل من يفكر أن يتحدث عن “الجنوب العربي” وعن جهود “المجلس الانتقالي الجنوبي” أن يصمت فوراً، بل أن يهرب ويختبئ، خشية وصفه بـ”المدعوم إماراتياً”.

قناة الجزيرة، ومن خلفها الفكر الهجين الذي يحركها ويمولها – التي تتجرّأ علانية على دعم الحوثية الإرهابية، والتسويق لمشاريعها الانقلابية، وممارساتها الوحشية بحق أبناء الشمال في اليمن، خاصة في العاصمة صنعاء، من تجنيد أطفال واغتصاب نساء ومنع المساعدات الإنسانية والسماح بتفشي فيروس كورونا، تضع كامل تركيزها وتقاريرها الإخبارية، لإرباك المشهد اليمني، فتستضيف على شاشاتها كل من يقبل بحفنة من الدولارات أن يشتم السعودية والإمارات ويسيء إليهما ولو بكلمة واحدة.

وعلى وقع الإجماع الشعبي لخطوات المجلس الانتقالي الجنوبي، تتحرك في حضرموت، على غرار مليونية عدن في 15 أغسطس 2019، مليونية أخرى باتجاه مدينة المكلا، فيجمع المحتشدون على دعم المجلس الانتقالي وتمكينه من الإدارة الذاتية والخطوات التي يقوم بها لتنفيذ اتفاق الرياض، ولكن وبشكل مؤسف، يتجاهل الإعلام العربي هذه الحشود الضخمة، فلا يتطرقون إليها أو يتحدثون عن أهميتها، ولو بخبر بسيط، بينما تفزع محطات الأخبار الأجنبية، كالروسية والبريطانية والأمريكية، إلى المهنية، في إعطاء كل صوت حقه، في التعبير والتمحيص، وكخبر هام وعاجل، لا يمكن تجاهله.

يتساءل البعض عن سر تجاهل الإعلام العربي للأحداث الصاخبة التي تجري في اليمن، خاصة على صعيد العلاقة بين الشمال والجنوب، بدءاً بالتحشيد الإخواني نحو الجنوب في أبريل 2020، وإعلان بعض الشخصيات التي انشقّت عن الحكومة اليمنية كالجبواني والميسري وغيرهم، تحويل الجنوب لساحة حرب، وتحرير المناطق المحررة، والتصعيد إلى أعلى المستويات، دون أن تنطق الصحف ومحطات الأخبار العربية بحرف واحد، أو تناقش تلك المسألة، أو تتصدّى لتحليلها، وما يمكن أن تؤول إليه، فيعود السؤال بثوب الصدى ليسأل عن السبب، ويحاول التفسير، فلا يجد إجابة واحدة مقنعة.

لسنا هنا في معرض انتزاع حق للجنوبيين في الحصة العادلة من التغطية الإعلامية المهنية، شأنها شأن أية مادة خبرية هامة، فلا يعني أن بعص المؤسسات الإعلامية التي اختارت الصمت أو التجاهل، تستطيع أن تمنع عنهم حقهم السياسي والاجتماعي التاريخي في الانفكاك من الوحدة الفاشلة التي جرت لهم الويلات منذ العام 1994، ولا يمكن تشبيه حال الجنوب العربي بأقاليم أخرى تسعى إلى الانفصال، فمقعد الجنوبيين في الأمم المتحدة وعلمهم وعملتهم وإجماعهم السياسي والشعبي على قيادة واحدة ليس وليد هذا المقال، بل يمتد إلى سنوات طويلة سبقت الوحدة نفسها، وتجلى في خطوات محسوبة وواثقة يراها العالم أجمع ولا يختلفون عليها، وعلى رأسها تأسيس المجلس الانتقالي في مايو 2017، ثم توقيع اتفاق الرياض بين الانتقالي والحكومة الشرعية في نوفمبر 2019، ثم فتح عاصمة السلام الرياض لممثلي الانتقالي للقاء الهيئات الديبلوماسية العالمية ومناقشة موضوعاتهم وخطواتهم وأعمالهم.

هل يكفي ذلك ليتحرّك الإعلام العربي نحو جميع هذه الأحداث الصاخبة، ويطغى على صوت “نعيق” الجزيرة التي تعمل بأجندة واضحة هدفها الإرباك والتشويش، ويعطي الصوت الجنوبي حقّه كاملاً، كأيّ قضية عالمية أخرى، والدفع لتنفيذ اتفاق الرياض كما يراه رعاته المخلصين، أم ينتظر الإعلام العربي أن يتم تقديم ملف دولة الجنوب للأمم المتحدة، ويعود ليحصل على مقعده المحجوز، ليفكروا في الخطأ العميق الذي مارسوه بحق هذا المكون العربي الوفي الأصيل..؟