الوطنُ الطّارد!

الوطنُ هو رقعة الجغرافيا التي تحتضنك بميلادك ونشأتك وكل محيطك البشري ، وتمتزج ببيئتهِ من الدار الى الهواء والصحبة والشجر وكلٌ ماعلى الطبيعة، والأهم أنّ هذا التّمازج يؤصلُ الحميميّة وعُمق الرباط بينك والوطن ، وخصوصاً فيما إذا كان شكل كل العلاقات الإنسانية فيه مُجَسّدةً بقدرٍ من التناغم وتبادل النفع والعطاء ، وهذه الأخيرة يُرسيها شكل السلطة التي تضبط إيقاع أداء ومسار هذا الوطن.  

خُلق الإنسان محباً لوطنهِ بالفطرةِ، وفي وطني تضيقُ الخيارات وتؤولُ الى الصفر ، ولابقعة ضؤ في الأفق تومئُ الى أنّ ثمّة إنفراجة ما ربما ستأتي في الأمدِ المنظور ، والموظف العادي - وأنا منهم - وبسبب إنهيار العملة ، تٱكل راتبه بشكلٍ مُهول ، فمابالنا بالمعدمين وبدون أعمال أو مصادر دخل ، والغلاء يطحن الكل بلارحمة ، وإنقطاعات الكهرباء والمياه وتردي كل الخدمات أحالت الحياة جحيماً، ولذلك تقابل الناس حتى في الصباحات وهم بوجوهٍ جَهْمةٍ ويخنقها الضّيق والقلق ، حتى نظرات عيونهم كئيبة وهي تُهوٌمُ في فضاءات الوطن الخانقة .

  ذات صباح ، وأنا بصحبة لفيفٍ في مقهى ، جاءنا شائبٌ ربطتني به مودة قديمة وبادرنا : أنت هنا ، ما شاء الله عليك ياإبني ، أنا أريد أقول لك شيئاً ، لاالشرعية باتنفعك ، ولاقيادة الإنتقالي التي تعلن إنتمائك اليه تعرفك أو تعرف أين وضع ربي ، وأنت بقلمك ترصٌ لك طوابيراً من الخصوم ، والبلاد منفلتة ، وإذا قدّر الله وحدث لك شئ ، لن يجد أبناؤك أحد من الشرعية أو الإنتقالي حتى ليمسدوا على رؤوسهم ويطمئنوهم بأنهم الى جانبهم وحسب .. كان الرجل يتحدث وأنا أحدقُ فقط في وجهه وأهزٌ رأسي ، لكن كلٌ دواخلي كانت تصرخ : صدقت والله ياعمي . 

 عندما تضيق عليك حدود الوطن ، يختنق الأفق أمامك ، وتصير كل الممكنات غير مُبهجة ، حتى البسمة تفقدُ ألقها على الشفاة ، هكذا يسير الناس في الشوارع اليوم مُثقلين بعبئ مايطحنهم ، والكلٌ يتذمّر ويسخط ، وكثيرون يفكرون جِدياً ببيع مابحوزتهم والهجرة الى مكان ٱخر ، حتّى الى أرض الصومال ، فربما تكون الحياة هناك أفضل ، وهي كذلك ولاشك ، وشخصياً تضغطُ على نفسي هذه الفكرة وبإلحاحٍ غريب . 

 سلطاتنا سادرة في غيها وعبثها، وهي تُوغلُ في طحن الشعب في رِحىٰ لامبالاتها به ، ووصل الأمر حدّ الإيقاف العمدي لمرتبات عسكريينا الجنوبيين لأشهر ! ولا رؤية لديها أو مثقال ذرة من إهتمام للتعاطي مع الحديث المتصاعد عن الإنهيار الإقتصادي التام الذي يحيق بالبلاد ، حتى التحالف المسؤول الأول عن البلاد بحسب القرارات الدولية ، ويبدو أنه يتلذّذ بكل مايجري ووفقاً لحسابات خاصة به ، فهو يسير في نفس نسق سلطاتنا الفاسدة العابثة ، أي لم يعد أمام الناس إلا أن يرفعوا أكفهم الى السماء ويصرخوا : ياألله رحمتك ولطفك .. أليس كذلك ؟!.